لمة الرياض
الجلاد ليس شجاعاً بالضرورة..!؟
راشد فهد الراشد
الفيلم الوثائقي يظهر سبعة أسود ضارية في الغابة الأفريقية، تجتمع على وجبة
فريستها من البقر الوحشي التي سقطت للتو بين براثنهن، كما يظهر ثلاثة رجال أفارقة
يتجهون بكثير من الهدوء واللامبالاة، وبكثير -أيضا- من التماسك والثقة، وكأنما كل
واحد منهم يتجه للتلذذ بالقبلة الأولى على شفتي معشوقته، يتجهون إلى الفريسة
والأسود، في خطواتهم ثقة، ويتبادلون الأحاديث والنكات، غير مترددين، ولا خائفين،
ولا حذرين، ولا يحملون سلاحاً إلا سكينا حادة ليست لأغراض القتال.
شاهدَتهم الأسود، زأرت، وكشرت عن أنيابها تنذر بالشر، والموت، غير أن الرجال
كانوا في حالة الهدوء التام، لم يظهر عليهم شيء مما يفترض أن يكون في مثل هذا
الظرف التراجيدي، فالموت كما هو متخيل أقرب لهم من الحياة، فلما أيقنت الأسود بأن
عزائم الرجال الثلاثة متوافرة، والثقة لديهم ليست تصنعاً، ولا ادعاءً، وأنهم في
خطواتهم العشر إلى الفريسة، سكنها الخوف، إن لم يكن الرعب، فانسحبت مذعورة
وخائفة، وانزوى كل أسد خلف شجرة يراقب المشهد وفي أعينهم كثير من التقزّم،
والحسرة، والانهيار.
اقتطع الثلاثة كامل رجل الفريسة، وظهورهم نحو الأسود، وكأنما من خلفهم قطط أليفة،
وحملها واحد منهم على كتفه، وغادروا المسرح، وعند ابتعادهم عادت الأسود لتكمل
وجبتها.
الفيلم الوثائقي يعطي دلالات عند قراءته، ويحمل مضامين عند فهمه، لعل أهمها أن
الكائن البشري يمتلك قدرات، وطاقات، ومواهب هائلة، إذا ما استخدم عقله في توظيفها
فإنه قادر على امتلاك العالم، وصناعة أقداره، ومصائره على نحو يحقق المعجزة،
ويُخضع المستحيل لإرادته، وهذا يتأتّى للإنسان عبر ثقته في نفسه، وإيماناته بطاقاته
الكامنة في داخله، وإدراكه المتناهي بأن الوجود في طواعية لرغباته، إذا كان يملك
الشجاعة بما فيه الكفاية، والثقة في النفس بما فيه التصميم، والإرادة، والعزم.
في القصة التي نقلناها عن ذلك الفيلم الوثائقي المدهش، والحابس للأنفاس عند
مشاهدته، رمزية نسقطها على واقع بعض الشعوب العربية في علاقاتها السرمدية مع
أنظمتها العسكرية الحاكمة، فقد زرعت هذه الأنظمة في إنسانها حالة الخوف، والرعب،
والاستكانة، والخضوع لمشيئة النظام العاهر في ممارساته القمعية، والتعسفية، وإذلال
الإنسان، وامتهان كرامته، وإلغاء قدراته، والإنسان الخائف، والمسكون بوجع الرعب
يتحول في كل الأحوال إلى كائن لا يشبه البشر، فالخوف يلغي وجوده ككائن يفكر،
ويبدع، ويعمل، وينتج، في كافة حقوله، وقطاعات حيويته، ومضامين معرفته، وتتوفر
لديه التطلعات، والآمال والأحلام التي بها يستطيع الدخول في واقع كوني عبر أدوات كان
من المفترض أن يمتلكها منذ أمد بعيد، وأزمنة خلت، لكنه غُيب عنها قسراً بفعل تسلط
النظام الذي يحمي امتيازاته، ويضمن استمراريته بالتوريث إلى أحفاد الأحفاد، فمفهومه
للديمقراطية والقانون هو البقاء، والبقاء، والبقاء، ولو على أشلاء الشعب، وتمزقات
الوطن.
عندما كسر الناس في هذه الأنظمة الاستبدادية جدار الصمت، والخوف، والرعب،
ووطنوا الشجاعة في دواخلهم كسلوك، وممارسة، وفهم، وقرروا تغيير واقعهم المحزن،
والباعث على الشفقة، والرثاء، انقلبت الأشياء إلى أضدادها، فتحول الجلاد إلى فريسة،
والمُرعب إلى قزم مرعوب، والديكتاتور الذي يمارس البطش والإذلال إلى خائف ذليل
جبان.
الخوف، والرعب، وفقدان الثقة في النفس، داءات الشعوب، ومصدر امتهان كرامتها